أثر الهجر والقطيعة في المجتمع

خطورة الهجر والقطيعة

تُعدّ الروابط الاجتماعية من أعظم ما تميز به الإنسان عن سائر المخلوقات، وهي حجر الزاوية في بناء المجتمعات الإنسانية المتماسكة. وإذا كانت هذه الروابط تقوم على المحبة والتسامح والعفو، فإن الهجر والقطيعة تهدمها من الجذور. فالهجر – سواء كان بين الأرحام أو بين الأصدقاء أو حتى بين الجيران – له أثر سلبي بالغ الخطورة على الفرد والمجتمع، من الناحية النفسية والاجتماعية والدينية، بل قد يمتد أثره إلى حياة الناس الاقتصادية والأمنية.

أولًا: الهجر في ميزان الشريعة

الإسلام، كدين رحمة ومودة، حذّر من الهجر والقطيعة، وجعل صلة الأرحام من أعظم القربات، بل قرنها بعبادة الله في مواضع كثيرة. قال الله تعالى:

﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم﴾ [محمد:22].

وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:

“لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام” [رواه البخاري ومسلم].

فالهجر محرم بعد ثلاثة أيام إذا كان بين المسلمين بلا سبب شرعي، ويزداد خطره إذا كان بين الأقارب، بل يعدّ قطيعة رحم محرمة بنصوص الشريعة.

ثانيًا: الأسباب التي تؤدي إلى الهجر

لفهم خطورة الهجر، لا بد من الوقوف على أسبابه، فذلك يمكّن من معالجته والحدّ من انتشاره. ومن أبرز هذه الأسباب:

• سوء الظن وعدم التثبت: كثير من القطيعة تبدأ من إشاعة أو كلام غير موثوق لم يتبيّنه الطرفان.

• الكِبر والعناد: فبعض الناس يأنف أن يعتذر أو يبدأ بالصلح، فيطيل أمد الهجر.

• الخلافات المادية أو الإرثية: خصوصًا بين الإخوة والأقارب، وهو من أكثر أسباب القطيعة انتشارًا.

• الحسد والتنافس: وقد يكون الحسد على مكانة أو مال أو شهرة، مما يؤدي إلى النفور والهجر.

• التدخلات الخارجية: مثل النميمة أو الفتن التي ينقلها طرف ثالث بقصد الإفساد.

ثالثًا: آثار الهجر والقطيعة على الفرد

1. الضرر النفسي

الهجر يزرع في القلب الكراهية والحقد، ويعزّز مشاعر الوحدة والخذلان. فمن يُهجر يشعر بالنبذ واللامبالاة، مما قد يقوده إلى الاكتئاب أو الحقد أو الانعزال عن المجتمع.

2. الحرمان من الأجر

من يهجر أخاه المسلم بغير حق يُحرم من الأجر العظيم الذي يناله من يصل رحمه أو يُبادر بالصلح. وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من أن تُعرض الأعمال على الله ولا تُقبل بسبب الشحناء.

3. قطع الطريق على المغفرة

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“تُفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا” [رواه مسلم].

رابعًا: آثار الهجر والقطيعة على المجتمع

1. تفكك الروابط الاجتماعية

الهجر يؤسس لحالة من التفكك والتشرذم داخل المجتمع، فيصبح كل فرد في عزلة عن الآخر، ويفقد الناس شعورهم بالانتماء والتضامن.

2. انعدام الثقة وتفشي العداوات

في المجتمعات التي تسود فيها القطيعة، يكثر سوء الظن، وتنتشر الشكوك، وتضعف روح التعاون والعمل الجماعي، مما ينعكس على كافة مناحي الحياة.

3. ضعف البنية الاقتصادية

الهجر والقطيعة أحيانًا تتسببان في انهيار شراكات تجارية أو مشاريع عائلية، لاسيما إن كان أطراف النزاع شركاء أو ورثة. كما تؤدي إلى خسارة الموارد البشرية التي كان يمكن توظيفها لخدمة المجتمع.

4. خلل في التربية والأدوار الأسرية

حين تحدث قطيعة بين الأبناء والآباء أو بين الإخوة، يتأثر الأبناء بذلك سلبًا، فتنشأ أجيال لا تعرف قيمة التواصل العائلي، ولا تحترم روابط الدم والقرابة.

خامسًا: صور من القطيعة والهجر المعاصرة

الهجر لم يعد مقتصرًا على المقاطعة الجسدية فقط، بل أصبح يتخذ أشكالًا جديدة تتناسب مع العصر الرقمي، منها:

• الهجر الإلكتروني: كمن يتعمد حذف أو حظر أقاربه أو أصدقائه من منصات التواصل لأسباب تافهة.

• الإهمال العاطفي: حين يكون الشخص حاضرًا بجسده فقط دون تواصل وجداني أو اهتمام، مما يشعر الطرف الآخر بالهجر.

• القطيعة المؤسسية: مثل النزاعات التي تحدث في بيئات العمل وتؤدي إلى شلل إداري أو تجميد لمشاريع حيوية بسبب خلافات شخصية.

سادسًا: العلاج والوقاية من الهجر والقطيعة

1. تعميق قيمة التسامح

التربية على التسامح والعفو منذ الصغر من أهم وسائل الوقاية من القطيعة. فالمجتمع الذي يسود فيه التسامح يقلّ فيه الهجر وتقلّ فيه الفتن.

2. المبادرة بالصلح

الشرع يعتبر من يبدأ بالسلام أو الصلح خيرًا من الطرف الآخر. فلا ينبغي أن ينتظر أحدنا الآخر ليخطو الخطوة الأولى.

3. التذكير بالآثار الشرعية

التوعية الدينية والتحذير من عواقب القطيعة يجب أن تكون مستمرة في المساجد والمدارس والبيوت.

4. التحكيم العائلي أو الاجتماعي

في حالات النزاع الممتدة، ينبغي تدخل كبار العائلة أو الشخصيات الاعتبارية للإصلاح، حتى لا يتفاقم الأمر.

5. الاعتراف بالأخطاء والاعتذار

ثقافة الاعتذار مهمة في إصلاح ذات البين. الاعتذار لا يُنقص من قدر الإنسان بل يرفعه، وهو دليل نضج وحكمة.

6. الحذر من النميمة والفتنة

غالبًا ما يكون سبب القطيعة كلمة نمّام أو ناقل فتنة. لذا يجب التعامل بحذر مع الإشاعات والحرص على التثبت.

سابعًا: الهجر والقطيعة في ضوء علم النفس

علم النفس يؤكد أن العلاقات الاجتماعية المستقرة تسهم في الصحة النفسية والبدنية للفرد، بينما تؤدي القطيعة إلى اضطرابات مزمنة. تشير دراسات نفسية متعددة إلى أن الأفراد الذين يعيشون في بيئة مليئة بالنزاعات يعانون من:

• ارتفاع مستويات التوتر والقلق.

• انخفاض جودة النوم.

• ضعف جهاز المناعة.

• الميل إلى العدوانية أو الانطواء.

ثامنًا: الهجر بين الزوجين وأثره الأسري

من أخطر صور الهجر، هجر أحد الزوجين للآخر بلا مبرر شرعي، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار الأسرة، وتشتت الأبناء، وضياع الاستقرار العاطفي. وقد نهى الشرع عن ذلك، خصوصًا إذا كان الهجر بغرض الإذلال أو الإضرار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“استوصوا بالنساء خيرًا”.

كما حث على الصلح بين الزوجين فقال:

﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء:35].

جدول يوضح مقارنة بين الصلة والقطيعة:

تاسعًا: الهجر والقطيعة في التراث الإسلامي

أدرك السلف الصالح خطورة الهجر، فتجنبوه ما استطاعوا، وكانوا يسارعون إلى الصلح. روي أن الإمام أحمد بن حنبل خاصمه أحد أقرانه، فلما علم بمرضه زاره بنفسه. وقال الحسن البصري:

“لا يزال الرجل بخير ما لم يَهجر”.

عاشرًا: خاتمة في ضرورة وصل ما انقطع

إن الهجر والقطيعة، مهما بدت في لحظتها وسيلة للراحة أو الانتقام، إلا أن عواقبها وخيمة على الفرد والمجتمع. فليحرص كل مسلم على صلة من حوله، وليجعل من العفو والتسامح طريقًا دائمًا لحياته، ولينظر في عاقبة الأمور لا لحظتها. فتلك المجتمعات التي تسودها المحبة والتواصل هي التي تبني حضارتها بأيدي أبنائها، وتنهض بوحدتهم لا بتفرقهم.

المراجع:

1. صحيح البخاري ومسلم – أبواب البر والصلة.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري.